من الصعب أن تتخيل قضاء يومك منتظرا في الطوابير، لكن الحياة في سوريا صعبة جدا، وعليك قضاء معظم وقتك منتظرا على الطوابير، لأنك تمتلك فقط القليل من المال للبقاء على قيد الحياة

 

دخلت البشرية عقداً جديداً من القرن الحادي والعشرين، في عصر بلغ معه العالم مرحلة من التطور المتسارع غير المألوف، في مجال الفضاء والسيارات وتكنولوجيا الاتصالات وتقنية المعلومات واستخدام الروبوتات وغيره بما لا يمكن حصره الآن.

لكننا هنا، رغم كل ذلك غير مهتمين بكل الحاصل في العالم، هل تعلمون لماذا؟.

هل تعلمون لما لا يتلاءم كل هذا الكم من التقدم مع طبيعتنا؟

لسبب بسيط نحن شعب الطوابير وستعرفون لماذا صرنا كذلك.

في كل شارع من شوارعنا يصطف المواطنون ساعات وساعات في أرتال غير منتظمة ولا منضبطة، في كل حي من أحيائنا تتعالى الصيحات واللعنات والشتائم، في كل لحظة هناك ابتسامة ظفر مؤقتة وخيبة مكررة، في الحقيقة حتى اننا لا نعلم كيف نقف في طوابير، لأن للأخيرة أصولاً لا نملك القدرة على استيعاب ماهيتها، لأن للطوابير فنَاً أكبر من قدرتنا الأخلاقية والوجدانية على العطاء.

يقف بعضهم (وأنا منهم جميعا) لأجل الخبز وآخرون للحصول على أسطوانة غاز، وفي الشتاء كما نحن اليوم نشتهي قطرة مازوت (ديزل) إضافية أو دقيقة وصل للتيار الكهربائي زيادة،

هذه حالنا نحن الفقراء، منذ أن استشرت في ربوعنا وامتزجت مع أقدارنا الخفافيش السوداء، طوقتنا، ومعها حل الظلام.

أكثر طابور متكرر يستدعي الانتباه، بداية كل شهر، هو طابور المتقاعدين اللانهائي لقبض رواتبهم أمام صرافات آلية غالبا ما تكون متوقفة عن العمل،أما عندما تكون موجودة بالخدمة بمعجزة) ترى الاختناقات المؤسفة.

دخلت مرحلة مستجدة من البؤس المقيم في بلدنا المكبوت، غلاء المواد الغذائية، حتى أوليات العيش بات علينا الاقتصاد بها.

زاد الفقير فقرا، هذا كل ما حصل، صار بديهيا ركل الهواء والسباب بأعلى صوت من قبل الناس التي لم تعد تحتمل كل الضغوط، والعبارة الساخرة المؤسفة التي يرددها من يشهد هكذا حوادث هي (بالعامية فقدو، والمقصود هنا العقل).

كنت أعمل ببقالية، ومن أكثر ما كان يزعجني هو الغني الذي يعمل كخفاش متملق صغير وأحمق: أي أنه استفاد من الحرب ليجمع ثروة وينهب، رغم كونه غير محتاج، عندما يدخل وبكل وقاحة ليشتري شيئا حاملا رزمة دولارات ورزمة من العملة المحلية، وبسبب الفروقات في الأسعار التي تحصل بعد موجة الغلاء، يبدأ بكيل الشتائم اللاذعة على أمهم وأخواتهم (موجها كلامه  نحو الخفافيش الكبار)، وينسى أنه من نفس أمهم ولد، وأخواته هن أخواتهم ذاتهن.

نموذج قمة في الانحطاط والغائية والمصلحة الفردية، تنعدم لدى الكثير من أمهم وأخواتهم لهؤلاء الشرف والأخلاق .رغم أنني أكتب عن الفقراء لدينا، إلا أنه لا يمكنني أن أغفل الجانب الآخر، المستفيدون من الصراع والخراب.

Peopole waiting in front of a Consumer Enterprise
Peopole waiting in front of a Consumer Enterprise

للحرب القذرة أيادٍ داخلية لئيمة، غذّت في كل قرية ومدينة ومحافظة، بعض الصغار ممن ملئوا جيوبهم على حساب حقوق الآخرين، عن طريق سرقة كميات من أسطوانات الغاز مثلا ومخصصات التدفئة و(السلبطة *التَّسلط*)على الناس أمام أفران الخبز وحمل السلاح في الأزقة وغيرها من المظاهر الاستعلائية، إنها عقلية الميليشيا والعصابة، عملية سلب منظمة، سواء من قبل الداخل أوالخارج، وإذا ما أردنا تقييم الأمور عامة نجد ضحيتها البشر والمكان والمستقبل.

مما لاشكَ فيه أننا صرنا شعباً اعتاد الطوابير مرغماً، فقد دفعوه ليكون مضرب مثل بين كل الشعوب، بأطول طابور سيارات يصطف من أجل الوقود، وبأطول طابور متقاعدين لقبض المعاش على صراف واحد في مدينة تعدادها مئات الالاف، في الصيف والشتاء.

نعترف أننا شعب الطوابير، وأننا لا نُجيد فنَها لأننا مرغمون على الهرج والمرج لعدم المساواة، فذلك اصابنا في أخلاقنا.

ومن يملك الدواء لكل ذلك، هو أصل الداء.

هكذا أصبحنا نقف في طوابير متعرجة فوضوية، لا تكاد تميز أولها عن آخرها، في كل حي وزاوية، وفي كل منحى من مناحي الاحتياجات اليومية في أزمات مفتعلة القصد منها إلهاء المرء عن جحيمه الذي يعيش فيه، بعد أن استشرى بيننا الخفافيش.

3\1\2020

مهند سليمان

Text by Mohanad Solaiman from Syria

Bild:copyright privat